ظلّ تحكيم الشريعة مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بقضية التوحيد خلال ثلاثة عشر قرنًا من تاريخها، حتى غَلَبَتْها الجاهلية المعاصرة على دينها في القرن الأخير. ولقد خُيّل لبعض المـُـنهَزِمين أمام الحضارة الغربية أن تأخّر المسلمين كان نتيجة تمسّكهم بالإسلام. واستطاع هؤلاء القوم أن يجعلوا من هذا الزّيف مدرسةً وفكرًا، وأن يُنشئوا عليه أجيالًا لا تعرف عن دينها سوى تلك الشبهات، لا سيّما مع حرص العلمانية على التظاهر باحترام الدين، وأنّ ما تفعله من فصل الدين عن الدولة هو لمصلحة الدين، وغيرةً عليه من أن يتلوّث جوْهَرُه النقيّ بألاعيب السياسة، وسنتعرض في هذا الكتاب للرد على تلك الشبهات المثارة.
إن نظرةً واحدةً لكتاب الله تعالى تُرِينا أهميّة قضية التوحيد؛ فهي القضية الأولى والكُبري في القرآن، وقد استغرق تثبيتها في نفوس المسلمين زمنًا طويلًا؛ فهي ليست مجرد تصديق عقليّ بأن الله واحد وفقط، بل لكي يتحقق التوحيد لا بد من الاعتقاد الراسخ بأنه - تعالى - مُتَفَرِّد في ذاته وصفاته، وأن التوجُّه بالشعائر التعبُّدية يكون له وحده، وأن التَّحاكُم لا يكون إلا لشريعته دون سواها من الشرائع. هذه هي المـُقْتضيات الثلاثة لكلمة لا إله إلا الله، وأيُّ نقضٍ لواحد منها هو نقضٌ للتوحيد الذي لا يكون المرء مُسْلِمًا بدونه.
لقد كان المـُـقْتضي الأول للتوحيد في حسِّ الأمة هو التلقِّي من عند الله، وهذا هو مَفْرِق الطريق بين الجاهلية والإسلام. لقد ظلّ تحكيم الشريعة مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بقضية التوحيد خلال ثلاثة عشر قرنًا من تاريخها، حتى غَلَبَتْها الجاهلية المعاصرة على دينها في القرن الأخير، وحين حدث أنْ حَكَم التتار أجزاء من العالم الإسلامي بما سمّوه (الياسق)، أجمع علماء الأمة على أنه كُفرٌ بواح، رغم أنه اشتمل على شرائع من القرآن والتوراة والإنجيل. لقد خُيّل لبعض المـُـنهَزِمين أمام الحضارة الغربية أن تأخّر المسلمين كان نتيجة تمسّكهم بالإسلام، وأن الإسلام لم يَعُد صالحًا لمواكبة التطوّر الحديث. إنهم لا يُجادِلون في المتشابهات التي يتّسع فيها المجال للتأويلات والعُذر بالجهل، ولكنهم يجادلون في الأصول والقَطْعيّات؛ يصرّحون بِرَفض الحدود والقصاص بدعوى الهمجية، ويجهرون بإباحة الرِّدة والكفر بدعوى حريّة الاعتقاد، وإباحة الفواحش بدعوى الحرية الشخصية؛ فماذا تبقّي من الإسلام بعد ذلك؟
تقول هذه الدعوى: "إن الدين هو ما يُقام في الناس من شعائر العبادات ومكارم الأخلاق، أما وراء ذلك من المعاملات وأمور القضاء والسياسة فليس من الدين في شيء"، ونقول لهم إن في القرآن الكريم أحكامًا كثيرة ليست من العبادات ولا الأخلاق المجردة؛ كأحكام البيع والربا والرهن والدين والزواج والطلاق والمواريث والزنا والحِرابة. هذا يدلّنا على أن مَن يدعو إلى فصل الدين عن السياسة إنما يَدِينُ دينًا آخر سَمّاه الإسلام.
فهؤلاء إما أن يُنكروا هذه الأحكام وكُفرهم وقتها أصبح معلومًا من الدين بالضرورة، وإما أن يُقِرُّوا بوجود هذه الأحكام مع عدم صلاحيتها للتطبيق، وهم بهذا المـَـسلك يجعلون الإنسان نِدًّا لله؛ بل إنهم يُعْلون كلمة البشر على كلمة الله. ومن قال ذلك فقد خرج عن الإسلام جُملة - وإن صلّي وصام وزعم أنه مُسلم -، وقد قال الأستاذ عبدالحليم عويس: "كل من ينكر أيّ حُكم مفصَّل في القرآن أو السنة، أو يكتب ضدّه أو يعمل على تحريفه: كأن يجعل ميراث الأنثى مثل الذكر؛ فهو داخل في دائرة الارتداد؛ فتلك أمور لا تقبل الاجتهاد".
فالإسلام لا يعرف هذه الثنائية التي عرفها الفكر المسيحي الذي يقسّم الحياة بين الله وبين قيصر؛ فليس قيصر نِدًّا لله، بل هو عبدٌ لله، يخضع لِحُكمه ويَدِينُ بأمره ونهيه كما يدين كل العباد. ولِنَنْظر إلى (تركيا) على سبيل المثال، حيث كانت إمبراطورية تملأ عين الدنيا حين كان الدين هو سيّد الدولة، أما الآن فقد أصبحت دُوَيْلة مرعوبة تقبع في 10% من حدودها الأولى، وتتسوّل سلاحها من هنا وهناك، وأقصى ما تتطلع إليه أن تصبح عضوًا في السوق الأوروبية المشتركة.
اكمل قراءة الملخص كاملاً علي التطبيق الان
ثقف نفسك بخطة قراءة من ملخصات كتب المعرفة المهمة
هذه الخطة لتثقيف نفسك و بناء معرفتك أُعدت بعناية حسب اهتماماتك في مجالات المعرفة المختلفة و تتطور مع تطور مستواك, بعد ذلك ستخوض اختبارات فيما قرأت لتحديد مستواك الثقافي الحالي و التأكد من تقدم مستواك المعرفي مع الوقت
حمل التطبيق الان، و زد ثقتك في نفسك، و امتلك معرفة حقيقية تكسبك قدرة علي النقاش و الحوار بقراءة اكثر من ٤٣٠ ملخص لاهم الكتب العربية الان